فصل: سورة الْحِجْرِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الناسخ والمنسوخ



.سورة هُودٍ:

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا يَمُوتُ بْنُ الْمُزَرَّعِ، بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ هُودٍ بِمَكَّةَ فَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: لَمْ نَجِدْ فِيهَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْكِتَابِ إِلَّا آيَّةً وَاحِدَةً.
مِنْ رِوَايَةِ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَوْلُهُ تَعَالَى {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [هود: 15] قَالَ: أَيْ ثَوَابَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا قَالَ: {وَزِينَتَهَا} [هود: 15] مَا لَهَا {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} [هود: 15] قَالَ: نُوفِّرْ لَهُمْ ثَوَابَ أَعْمَالِهِمْ بِالصِّحَّةِ وَالسُّرُورِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ، قَالَ لَا يُنْقَصُونَ قَالَ: ثُمَّ نَسَخَتْهَا: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء: 18].
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: مُحَالٌ أَنْ يَكُونَ هَاهُنَا نَسْخٌ لِأَنَّهُ خَبَرٌ وَالنَّسْخُ فِي الْأَخْبَارِ مُحَالٌ لَوْ جَازَ النَّسْخُ فِيهَا مَا عُرِفَ حَقٌّ مِنْ بَاطِلٍ وَلَا صِدْقٌ مِنْ كَذِبٍ، وَلَبَطَلَتِ الْمَعَانِي وَلَجَازَ لِرَجُلٍ أَنْ يَقُولَ لَقِيتُ فُلَانًا ثُمَّ يَقُولُ نَسَخَتْهُ مَا لَقِيتُهُ.

.سورة يُوسُفَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا يَمُوتُ بْنُ الْمُزَرَّعِ، بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ يُوسُفَ بِمَكَّةَ فَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: رَأَيْتُ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ قَدْ ذَكَرَ أَنَّ فِيهَا آيَةٌ مَنْسُوخَةٌ وَهِيَ قَوْلُهُ جَلَّ وَعَزَّ إِخْبَارًا عَنْ يوسُفَ {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101] قَالَ نَسْخَهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ».
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا قَوْلٌ لَا مَعْنَى لَهُ وَلَوْلَا أَنَّا أَرَدْنَا أَنْ يَكُونَ كِتَابُنَا مُتَقَصًّا لَمَا ذَكَرْنَاهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعْنَى {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا} [يوسف: 101] تَوَفَّنِي السَّاعَةَ وَهَذَا بَيِّنٌ جِدًّا لَا إِشْكَالَ فِيهِ وَلَوْ صَحَّ أَنَّ قَوْلَ يُوسُفَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا} [يوسف: 101] أَنَّهُ يُرِيدُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِمَا كَانَ مَنْسُوخًا لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا قَالَ: «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ» فَإِذَا تَمَنَّاهُ إِنْسَانٌ لِغَيْرِ ضُرٍّ فَلَيْسَ بِمُخَالِفٍ لِلنَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَتَمَنَّى الْمَوْتَ مَنْ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ مُتَخَلِّصًا مِنَ الْكَبَائِرِ فَهَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا اسْتَقَامَتْ أُمُورُهُ وَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ الْفُتُوحَ وَأَسْلَمَ بِبَرَكَتِهِ مَنْ لَا يُحْصَى عَدَدُهُ تَمَنَّى الْمَوْتَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ كَبِرَتْ سِنِّي وَرَقَّ عَظْمِي وَانْتَشَرَتْ رَعِيَّتِي فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مُفَرِّطٍ وَلَا مُضَيِّعٍ.
وَعَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ».
فَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ السَّلِيمَ مِنَ الذُّنُوبِ مُحِبٌّ لِلِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ وَقَدْ قِيلَ هَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ.

.سورة الرَّعْدِ:

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا يَمُوتٌ، بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: سُورَةُ الرَّعْدِ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ فَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
وَرَوَى حُمَيْدٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: سُورَةُ الرَّعْدِ مَكِّيَّةٌ لَيْسَ فِيهَا نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ.
وَرَوَى سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: سُورَةُ الرَّعْدِ مَدَنِيَّةٌ إِلَّا آيَةً وَاحِدَةً، قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} [الرعد: 31] الْآيَةَ.
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ الْمُتَعَارَفُ كَمَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَزْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، قَالَ قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43] أَهُو عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَّامٍ، قَالَ: كَيْفَ يَكُونُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَّامٍ وَالسُّورَةُ مَكِّيَّةٌ؟ قَالَ: وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ يَقْرَأُ {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43].
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: أَنْكَرَ هَذَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَّامٍ إِنَّمَا أَسْلَمَ بِالْمَدِينَةِ.

.سورة إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا يَمُوتٌ، بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ فَهِيَ مَكِّيَّةٌ سِوَى آيَتَيْنِ مِنْهَا نَزَلَتِا بِالْمَدِينَةِ وَهُمَا قَوْلُهُ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا} [إبراهيم: 28] إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ نَزَلَتَا فِي قَتْلَى بَدْرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
وَرَوَى، سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا آيَتَيْنِ مِنْهَا نَزَلَتَا بِالْمَدِينَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا} [إبراهيم: 28] إِلَى {وَبِئْسَ الْقَرَارُ} [إبراهيم: 29].
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَالَّذِي قَالَهُ قَتَادَةُ لَا يَمْتَنِعُ قَدْ تَكُونُ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ ثُمَّ يَنْزِلُ الشَّيْءُ بِالْمَدِينَةِ فَيَأْمُرُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَعْلِهِ فِيهَا وَلَا يَكُونُ هَذَا لِأَحَدٍ غَيْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا يَأْتِيهِ مِنَ الْوَحْيِ بِذَلِكَ إِذْ كَانَ تَأْلِيفُ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا لَا يُؤْخَذُ إِلَّا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنِ الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ لَا يَلْحَقُهُمُ الْغَلَطُ وَلَا يَتَوَاطَئُونَ عَلَى الْبَاطِلِ.

.سورة الْحِجْرِ:

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا يَمُوتٌ، بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْحِجْرِ بِمَكَّةَ فَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: لَمْ نَجِدْ فِيهَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْكِتَابِ إِلَّا حَرْفَيْنِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: 85] قَالَ سَعِيدٌ عَنْ، قَتَادَةَ، نَسَخَتْهُ: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمُ} [البقرة: 191] وَالْحَرْفُ الْآخَرُ {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94].
رُوِيَ، عَنِ، ابْنِ عَبَّاسٍ: نَسَخَتْهُ بَرَاءَةٌ، وَالْأَمْرُ بِالْقِتَالِ.

.سورة النَّحْلِ:

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا يَمُوتٌ، بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَسُورَةُ النَّحْلِ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ فَهِيَ مَكِّيَّةٌ سِوَى ثَلَاثِ آيَاتٍ مِنْ آخِرِهَا فَإِنَّهُنَّ نَزَلْنَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فِي مُنْصَرَفِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أُحُدٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ قُتِلَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَمَثَّلَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَئِنْ أَظْفَرَنِيَ اللَّهُ بِهِمْ لَأُمَثِّلَنَّ بِثَلَاثِينَ مِنْهُمْ» فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَئِنْ أَظْفَرَنَا اللَّهُ بِهِمْ لَنُمَثِّلَنَّ بِهِمْ تَمْثِيلًا لَمْ يُمَثِّلْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ ثَلَاثَ آيَاتٍ وَهُنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] وَمَا نَزَلَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَهُوَ مَدَنِيٌّ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَوْضِعَانِ يَصْلُحَانِ فِي هَذَا الْكِتَابِ أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67].
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67] قَالَ: السَّكَرُ مَا حُرِّمَ مِنْ ثَمَرَاتِهَا وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ مَا حُلَّ مِنْ ثَمَرَاتِهَا.
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} [النحل: 67] قَالَ: خُمُورُ الْأَعَاجِمِ وَنُسِخَتْ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ. قَالَ: وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ مَا يَنْتَبِذُونَ وَيُخَلِّلُونَ وَيَأْكُلُونَ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَالْقَوْلُ فِي أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ يُرْوَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَأَبِي رَزِينٍ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: الْحَقُّ فِي هَذَا أَنَّهُ خَبَرٌ لَا يَجُوزُ فِيهِ نَسْخٌ وَلَكِنْ يَتَكَلَّمُ الْعُلَمَاءُ بِشَيْءٍ فَيَتَأَوَّلُ عَلَيْهِمْ مَا هُوَ غَلَطٌ لِأَنَّ قَوْلَ قَتَادَةَ: وَنُسِخَتْ يَعْنِي الْخَمْرَ أَيْ نُسِخَتْ إِبَاحَتُهَا وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّ سَعِيدًا رَوَى عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67] وَالْخَمْرُ يَوْمَئِذٍ حَلَالٌ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدُ تَحْرِيمَهَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ هَذَا وَنَزَلَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ عَلَى أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالنَّظَرِ قَالُوا غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ مِنْهُمْ أَبُو عُبَيْدَةَ قَالَ السَّكَرُ الطَّعْمُ وَقَالَ غَيْرُهُ السَّكَرُ مَا سَدَّ الْجُوعَ مُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلِهِمْ سَكَرْتُ النَّهْرَ أَيْ سَدَدْتُهُ فَتَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا عَلَى هَذَا مَا كَانَ مِنَ الْعَجْوَةِ وَالرُّطَبِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ إِذَا شُرِحَ وَالْمَوْضِعُ الْآخَرُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] مَنْ قَالَ هُوَ مَنْسُوخٌ قَالَ نَسْخَهُ الْأَمْرُ بِالْقِتَالِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ وَمَنْ قَالَ لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ قَالَ الْمُجَادَلَةُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ هِيَ الِانْتِهَاءُ إِلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، وَهَذَا لَا يَنْسَخُ.

.سورة بَنِي إِسْرَائِيلَ:

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا يَمُوتٌ، بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَكَّةَ فَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ مِمَّا يَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ فِي هَذَا الْكِتَابِ:

.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ الْأُولَى مِنْهُنَّ:

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24] فِي هَذَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24] هُوَ مَنْسُوخٌ بِأَنَّ هَذَا مُجْمَلٌ وَلَا يَجُوزُ إِنْ كَانَ أَبَوَاهُ مُشْرِكَيْنِ أَنْ يَتَرَحَّمَ عَلَيْهِمَا.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَجُوزُ هَذَا إِذَا كَانَا حَيَّيْنِ فَإِذَا مَاتَا لَمْ يَجُزْ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَرَحَّمَ عَلَى كَافِرٍ وَلَا يُسْتَغْفَرَ لَهُ حَيًّا كَانَ أَوْ مَيِّتًا، وَالْآيَةُ مُحْكَمَةٌ مُسْتَثْنًى مِنْهَا الْكُفَّارُ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُجَاشِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24]: نُسِخَ مِنْهُ حَرْفٌ وَاحِدٌ لَا يَجُوزُ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِأَبَوَيْهِ إِذَا كَانَا مُشْرِكَيْنِ، لَا يَقُولُ: رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا وَلَكِنْ لِيَخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَلْيَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا مَعْرُوفًا. قَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة: 113]، فَنَسَخَ هَذَا: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24].
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمْ يَزَلْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَسْتَغْفِرُ لِأَبِيهِ حَتَّى مَاتَ فَلَمَّا مَاتَ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ فَتَبَرَّأَ مِنْهُ.
وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ».
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ، ظَاهِرُ الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة: 113] وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَزَلْ مِنْ أَوَّلِ أَمْرِهِ يَدْعُو إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيُخْبِرُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَغْفِرُ الشِّرْكَ وَمَعَ هَذَا فَيَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّصَارَى وَهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ «لَا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ وَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُمْ إِلَى أَضْيَقِهِ» فَكَيْفَ يُسْتَغْفَرُ لِمَنْ هَذِهِ حَالُهُ أَوْ يُبَجَّلُ أَوْ يُعَظَّمُ بِالدُّعَاءِ لَهُ بِالرَّحْمَةِ وَأَيْضًا فَإِنَّ الشِّرْكَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ وَأَشَدُّهَا فَكَيْفَ يُدْعَى لِأَهْلِهِ بِالْمَغْفِرَةِ وَلَمْ يَصِحَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ الِاسْتِغْفَارَ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَا فَرَضَهُ وَلَا يَنْسَخُ إِلَّا مَا أُبِيحَ أَوْ فُرِضَ.
فأما قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة: 114] فَقَدْ قِيلَ إِنَّ أَبَاهُ وَعَدَهُ أَنَّهُ يُظْهِرَ إِسْلَامَهُ وَاسْتَغْفَرَ لَهُ فَلَمَّا لَمْ يُظْهِرْ إِسْلَامَهُ تَرَكَ الِاسْتِغْفَارَ لَهُ فَإِنْ قِيلَ فَمَا مَعْنَى {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113] فَهَلْ يَكُونُ هَذَا فِي الْعَرَبِيَّةِ إِلَّا بَعْدَ الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ؟ فَقَدْ أَجَابَ عَنْ هَذَا بَعْضُ أَهْلِ النَّظَرِ فَقَالَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ ظَنَّ أَنَّ هَذَا جَائِزٌ فَاسْتَغْفَرَ لِأَبَوَيْهِ وَهُمَا مُشْرِكَانِ فَنَزَلَ هَذَا.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: هَذَا لَا يَحْتَاجُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ يَجُوزُ لِأَنَّ فِيهِ حَدِيثًا قَدْ غَابَ عَنْ هَذَا الْمُجِيبِ حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَزْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا، يَسْتَغْفِرُ لِأَبَوَيْهِ وَهُمَا مُشْرِكَانِ فَقُلْتُ لَهُ: أَتَسْتَغْفِرُ لِأَبَوَيْكَ وَهُمَا مُشْرِكَانِ؟ فَقَالَ: أَلَيْسَ قَدِ اسْتَغْفَرَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَبِيهِ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة: 114].
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ مَا رُوِيَ فِي الْآيَةِ، مَعَ اسْتِقَامَةِ طَرِيقِهِ وَصِحَّةِ إِسْنَادِهِ.
وَعَلَى أَنَّ الزُّهْرِيَّ، قَدْ رَوَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي طَالِبٍ عِنْدَ مَوْتِهِ وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ فَقَالَ: «يَا عَمِّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ وَأَقْبَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ وَهُمَا يُعَارِضَانِهِ فَكَانَ آخِرُ كَلِمَةٍ قَالَهَا عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة: 113] وَأَنْزَلَ فِي أَبِي طَالِبٍ {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56].
وَحَدِيثُ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ هَذَا فِي نُزُولِ الْآيَةِ قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ عَلَى قَبْرٍ بَيْنَ الْقُبُورِ فَبَكَى حَتَّى ارْتَفَعَ نَحِيبُهُ فَفَزِعْنَا لِذَلِكَ فَلَمَّا قَامَ قَالَ لَهُ عُمَرُ مِمَّا بَكَيْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: عَلَى قَبْرِ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي جَلَّ وَعَزَّ فِي الِاسْتِغْفَارِ لَهَا فَأَنْزَلَ عَلَيَّ {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113] الْآيَةَ فَدَخَلَنِي مَا يَدْخُلُ الْوَلَدَ لِوَالِدَيْهِ فَبَكَيْتُ».
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ بِمُتَنَاقِضَةً لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَغْفَرَ لِمُشْرِكٍ.

.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ:

قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشَدُّهُ} [الأنعام: 152].
حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُجَاشِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152]: فَكَانُوا مِنْ هَذَا فِي جَهْدٍ حَتَّى نَزَلَتْ {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمُ} [البقرة: 220].
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ قَالَ مُجَاهِدٌ أَيْ: لَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ فَتَسْتَقْرِضُوا مِنْهُ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ التِّجَارَةُ لَهُمْ.
وَقَالَ رَبِيعَةُ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَمَالِكٌ: الْأَشُدُّ الْحُلُمُ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَبَلَغَ أَشَدَّهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَلَيْسَ هَذَا بِمُتَنَاقِضٍ يَكُونُ أَوَّلُ الْأَشُدِّ بُلُوغَ الْحُلُمِ فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ الْقَوْلَانِ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَمْرَ الْيَتَامَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا.

.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ:

قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110].
فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي رِوَايَةِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَسَخَتْهَا الْآيَةُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} [الأعراف: 205]، قَالَ دُونَ الْعَلَانِيَةِ مِنَ الْقِرَاءَةِ {بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الأعراف: 205]، قَالَ: بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ {وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205]، قَالَ عَنِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ.
وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ، ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْهَرُ بِالْقُرْآنِ فَإِذَا جَهَرَ بِهِ سَبَّ الْمُشْرِكُونَ الْقُرْآنَ وَمَنْ جَاءَ بِهِ فَخَفَّضَ صَوْتَهُ حَتَّى لَا يَسْمَعَهُ أَحَدٌ فَنَزَلَتْ {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110] أَيْ أَسْمِعْهُمُ الْقُرْآنَ حَتَّى يَأْخُذُوهُ عَنْكَ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّ الْمَعْنَى فِي الدُّعَاءِ وَأَنَّ الصَّلَاةَ هَاهُنَا الدُّعَاءُ هَذَا قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي مُوسَى وَعَائِشَةَ.
كَمَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَزْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا فَهْدٌ، قَالَ حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَّامُ بْنُ أَبِي مُطِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَتْ لِي خَالَتِي عَائِشَةُ يَا ابْنَ أُخْتِي هَلْ تَدْرِي فِيمَ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110] قُلْتُ: لَا: قَالَتُ: أُنْزِلَتْ فِي الدُّعَاءِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي الْآيَةِ لِأَنَّ فِيهِ هَذَا التَّوْقِيفَ عَنْ عَائِشَةَ، وَالْمَعْرُوفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنَّ الصَّلَاةَ الدُّعَاءُ وَلَا يُقَالُ لِلْقِرَاءَةِ صَلَاةٌ إِلَّا عَلَى مَجَازٍ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ مُجْمِعُونَ عَلَى كَرَاهَةِ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالدُّعَاءِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] وَأَمَّا أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} [الأعراف: 205] فَبَعِيدٌ لِأَنَّ هَذَا عُقَيْبُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] فَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى إِذَا أَنْصَتَ أَنْ يَذْكُرَ رَبَّهُ فِي نَفْسِهِ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً مِنْ عِقَابِهِ وَلِهَذَا كَانَ هَاهُنَا وَخِيفَةً وَثَمَّ وَخُفْيَةً وَمَعَ هَذَا فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَرَاهَةِ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالدُّعَاءِ مَا يُقَوِّي هَذَا وَقَدْ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55] قَالَ: مِنَ الِاعْتِدَاءِ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالدُّعَاءِ وَالنِّدَاءُ وَالصِّيَاحُ بِهِ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَزْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ يُونُسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَنَزَلْنَا فِي وَهْدَةٍ مِنَ الْأَرْضِ فَرَفَعَ النَّاسُ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا» ثُمَّ دَعَانِي وَكُنْتُ قَرِيبًا مِنْهُ فَقَالَ: «يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَةً مِنْ كَنْزِ الْجَنَّةِ؟» فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ».

.سورة الْكَهْفِ، وَمَرْيَمَ، وَطهَ، وَالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ:

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا يَمُوتٌ، بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُنَّ نَزَلْنَ بِمَكَّةَ لَمْ نَجِدْ فِيهِنَّ مِمَّا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْكِتَابِ إِلَّا مَوْضِعًا وَاحِدًا مُخْتَلَفًا فِيهِ.
قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ جَمَاعَةٌ مِنَ الْكُوفِيِّينَ يَذْهَبُونَ إِلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَنْسُوخٌ وَأَنَّ الْبَهَائِمَ إِذَا أَفْسَدَتْ زَرْعًا فِي لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ صَاحِبَهَا شَيْءٌ وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَكَمَ بِغَيْرِ هَذَا فَخَالَفُوا حُكْمَهُ وَزَعَمُوا أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ» وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ فِي الْحَدِيثِ «الْعَجْمَاءُ جُرْحُهَا جُبَارٌ» وَالْعَجْمَاءُ الْبَهِيمَةُ وَأَصْلُهُ أَنَّهُ يُقَالُ رَجُلٌ أَعْجَمُ وَامْرَأَةٌ عَجْمَاءُ إِذَا كَانَا لَا يُفْصِحَانِ بِالْكَلَامِ وَيُقَالُ إِنَّهُ مَا تَقَدَّمَ أَبَا حَنِيفَةَ أَحَدٌ بِهَذَا الْقَوْلِ حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هَذَا الْحُكْمُ أَصْلُهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَقَدْ حَكَمَ بِهِ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَلَا تَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ بِتَأْوِيلٍ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَةِ وَمِنْ حُكْمِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} أَيْ وَاذْكُرْ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء: 78] قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ نَبْتًا.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، كَانَ الْحَرْثُ كَرْمًا قَدْ أَنْبَتَتْ عَنَاقِيدُهُ.
{إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء: 78] وَالنَّفْشُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِاللَّيْلِ أَيْ دَخَلَتِ الْغَنَمُ بِاللَّيْلِ فِي حَرْثِ الْقَوْمِ الَّذِينَ لَيْسُوا أَصْحَابَهَا فَأَفْسَدَتِ الْعِنَبَ وَأَكَلَتْهُ.
{وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] أَيْ لَمْ يَغِبْ عَنَّا ذَلِكَ {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] أَيِ الْقَضِيَّةَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ دَخَلَتِ الْغَنَمُ فَأَفْسَدَتِ الْكَرْمَ فَاخْتَصَمُوا إِلَى دَاوُدَ فَقَضَى بِالْغَنَمِ لِصَاحِبِ الْكَرْمِ لِأَنَّ ثَمَنَهَا كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ فَمَرُّوا عَلَى سُلَيْمَانَ فَأَخْبَرُوهُ فَقَالَ كَانَ غَيْرُ هَذَا الْحُكْمِ أَرْفَقُ بِالْجَمِيعِ فَدَخَلَ صَاحِبُ الْغَنَمِ فَأَخْبَرَ دَاوُدَ فَقَالَ لِسُلَيْمَانَ كَيْفَ الْحُكْمُ عِنْدَكَ قَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ تَدْفَعُ الْغَنَمَ إِلَى صَاحِبِ الْحَرْثِ فَيُصِيبُ مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَصْوَافِهَا وَأَوْلَادِهَا وَتَدْفَعُ الْكَرْمَ إِلَى صَاحِبِ الْغَنَمِ فَيَقُومُ بِهِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى حَالِهِ فَإِذَا رَجَعَ إِلَى حَالِهِ سَلَّمْتَ الْكَرْمَ إِلَى صَاحِبِهِ وَالْغَنَمَ إِلَى صَاحِبِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79].
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: ثُمَّ رَجَعْنَا إِلَى مَا حَكَمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
كَمَا قُرِئَ عَلَى أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ زَكَرِيَّا بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بنُ هِشَامٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَرَامِ بْنِ مُحَيِّصَةَ، عَنِ الْبَرَاءِ: «أَنَّ نَاقَةً، لِآلِ الْبَرَاءِ أَفْسَدَتْ نَبْتًا فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عَلَى أَهْلِ الثِّمَارِ حَفِظَهَا بِالنَّهَارِ وَضَمَّنَ أَصْحَابَ الْمَاشِيَةِ مَا أَصَابَتْ مَاشِيَتُهُمْ بِاللَّيْلِ».
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَرَامِ بْنِ مُحَيِّصَةَ: أَنَّ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ أَخْبَرَهُ، «أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ نَاقَةٌ ضَارِيَةٌ فَدَخَلَتْ حَائِطًا فَأَفْسَدَتْ فِيهِ فَكُلِّمَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عَلَى أَهْلِ الْحَوَائِطِ حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ وَعَلَى أَهْلِ الْمَوَاشِي حِفْظَهَا بِاللَّيْلِ وَأَنَّ عَلَى أَهْلِ الْمَاشِيَةِ مَا أَصَابَتْ بِاللَّيْلِ».
فَهَذَا حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ حُكْمِ نَبِيَّيْنِ قَبْلَهُ بِالتَّضْمِينِ.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا ضَمَانَ.
وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ مَالِكٌ قَدْ رَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَرَامِ بْنِ مُحَيِّصَةَ، أَنَّ نَاقَةً، لِآلِ الْبَرَاءِ فَصَارَ مَقْطُوعًا فَقَدْ رَوَاهُ مَنْ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ مُتَّصِلًا لِأَنَّ إِسْمَاعِيلَ بْنَ أُمَيَّةَ، وعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عِيسَى نَبِيلَانِ جَلِيلَا الْمِقْدَارِ وَقَدْ تَابَعَهُمَا الْأَوْزَاعِيُّ فَلَا مَعْنَى لِمُعَارَضَةِ الْأَئِمَّةِ فِيمَا رَوَوْا بِغَيْرِهِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء: 78] وَعَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ لَا حُكْمَ فِيهِ وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ» لَيْسَ مِنْ هَذَا فِي شَيْءٍ لِأَنَّهُ قَدْ أَجْمَعَ مَنْ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ عَلَى رَاكِبِ الدَّابَّةِ مَا أَصَابَتْ بِيَدَيْهَا فَقَدْ صَحَّ أَنَّ الْمَعْنَىَ الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى صَاحِبِهَا حِفْظُهَا فَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ حِفْظُهَا فَلَيْسَتْ بِجَبَّارٍ وَقَدْ حَكَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عَلَى أَهْلِ الْمَاشِيَةِ حِفْظَهَا بِاللَّيْلِ فَلَيْسَ مَا أَفْسَدَتْهُ بِاللَّيْلِ إِذَنْ جُبَارًا وَالْجُبَارُ الْهَدَرُ الَّذِي لَا شَيْءَ فِيهِ وَقَدْ حَكَمَ دَاوُدُ وسُلَيْمَانُ بِمَا ذَكَرْنَا فَمَدَحَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79].
كَمَا قُرِئَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الْحُكْمُ أَوِ الْحِكْمَةُ الْعَقْلُ.
قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّهُ لَيَقَعُ بِقَلْبِي أَنَّ الْحِكْمَةَ هُوَ الْفِقْهُ فِي دَيْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَالَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَضْمِينِ أَصْحَابِ الْمَاشِيَةِ مَا أَصَابَتْ بِاللَّيْلِ مَعَ مَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ.

.سورة الْحَجِّ:

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا يَمُوتٌ، بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَسُورَةُ الْحَجِّ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ سِوَى ثَلَاثِ آيَاتٍ مِنْهَا فَإِنَّهُنَّ نَزَلْنَ بِالْمَدِينَةِ فِي سِتَّةِ نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، ثَلَاثَةٌ مِنْهُمْ مُؤْمِنُونَ وَثَلَاثَةٌ كَافِرُونَ.
فأما الْمُؤْمِنُونَ فَهُمْ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ دَعَاهُمْ لِلْبَرَازِ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ثَلَاثَ آيَاتٍ مَدَنِيَّاتٍ وَهُنَّ: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] إِلَى تَمَامِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَجَدْنَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَرْبَعَةَ مَوَاضِعَ تَصْلُحُ فِي هَذَا الْكِتَابِ:

.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ الأولى:

قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28]، وَقَالَ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ ذَبْحُ الضَّحَايَا نَاسِخٌ لِكُلِّ ذَبْحٍ كَانَ قَبْلَهُ حَتَّى قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي إِمْلَائِهِ كَانَتِ الْعَقِيقَةُ تُفْعَلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ فُعِلَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَتْ بِذِبْحِ الضَّحِيَّةِ فَمَنْ شَاءَ فَعَلَهَا وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهَا وَاحْتَجَّ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ بِقَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ نَسَخَ ذَبْحُ الضَّحِيَّةِ كُلَّ مَا قَبْلَهُ، وَقَدْ خُولِفَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي هَذَا وَاحْتُجَّ عَلَيْهِ بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلِهِ فِي الْعَقِيقَةِ وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 28] نَاسِخٌ لِفِعْلِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُحَرِّمُونَ لَحُومَ الضَّحِيَّةِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَا يَأْكُلُونَ مِنْهَا شَيْئًا فَنُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 28] وَيَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ ضَحَّى فَلْيَأْكُلْ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ».
إِلَّا أَنَّ الْعُلَمَاءَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ نَدْبٌ لَا إِيجَابٌ وَإِنْ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ الْأَكْلَ مِنْهَا كَمَا قَالَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ لَحْمِ أُضْحِيَّتِهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 28] وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَأْكُلَ أَوَّلُ مِنَ الْكَبِدِ.
وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَعَطَاءٌ، وَالثَّوْرِيُّ يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالثُّلُثِ وَيُطْعِمُ الثُّلُثَ وَيَأْكُلُ هُوَ وَأَهْلُهُ الثُّلُثَ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الِادِّخَارِ مِنْهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَدَّخِرُ مِنْهَا بَعْدَ ثَلَاثٍ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَدَّخِرُ إِلَى أَيِّ وَقْتٍ أَحَبَّ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنْ كَانَتْ بِالنَّاسِ حَاجَةٌ إِلَيْهَا فَلَا يَدَّخِرُ فَمِمَّنْ قَالَ لَا يَدَّخِرُ بَعْدَ ثَلَاثٍ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ عُمَرَ كَمَا قُرِئَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَجَّاجِ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، قَالَ حَدَّثَنِي عَقِيلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ، مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ قَالَ: شَهِدْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ صَلَّى بِنَا الْعِيدَ وعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَحْصُورٌ ثُمَّ خَطَبَنَا فَقَالَ: لَا تَدَّخِرُوا شَيْئًا مِنْ لَحْمِ أَضَاحِيِّكُمْ بَعْدَ ثَلَاثٍ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِذَلِكَ.
حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا لَيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَأْكُلْ أَحَدُكُمْ مِنْ لَحْمِ أُضْحِيَّتِهِ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ».
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ صَحِيحَانِ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ تُؤُوِّلَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ.
كَمَا حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ، أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَهَى أَنْ تُؤْكَلَ لُحُومُ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلَاثٍ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ كُلُوا وَتَزَوَّدُوا وَادَّخِرُوا».
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا نَسْخٌ بَيِّنٌ وَبِهِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَبُرَيْدَةُ الْأَسْلَمِيُّ قَالَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلَاثٍ أَلَا فَكُلُوا وَتَزَوَّدُوا» وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّ نَهْيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الضَّحَايَا إِنَّمَا كَانَ لِعِلَّةٍ بَيَّنَتْهَا عَائِشَةُ قَالَتْ: دَفَّتْ دَافَّةٌ مِنَ الْبَادِيَةِ بِحَضْرَةِ الْأَضْحَى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُوا وَتَصَدَّقُوا وَلَا تَدَّخِرُوا بَعْدَ ثَلَاثٍ ثُمَّ قَالَ إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ فَكُلُوا وَادَّخِرُوا».
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي هَذَا حَتَّى تَتَّفِقَ الْأَحَادِيثُ وَلَا تَتَضَادُّ وَيَكُونُ قَوْلُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَحْصُورٌ لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا فِي شِدَّةٍ مُحْتَاجِينَ فَفَعَلَ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَتِ الدَّافَّةُ وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا مَا حَدَّثَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا لَيْثٌ، قَالَ حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي يَزِيدَ، عَنِ امْرَأَتِهِ، أَنَّهَا سَأَلَتْ عَائِشَةَ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَقَالَتْ قَدِمَ عَلَيْنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنْ سَفَرٍ فَقَدِمْنَا إِلَيْهِ مِنْهُ فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَهُ حَتَّى يَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: «كُلْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ إِلَى ذِي الْحِجَّةِ».
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: الدَّافَّةُ الْجَمَاعَةُ بِالدَّالِ غَيْرَ مُعْجَمَةٍ وَيُقَالُ ذَفَفْتُ عَلَى الْجَرِيجِ بِالذَّالِ مُعْجَمَةً إِذَا أَجْهَزْتَ عَلَيْهِ مُشْتَقٌّ مِمَّا حَكَاهُ أَبُو زَيْدٍ قَالَ عَنِ الْعَرَبِ ذَفَّ الْأَمْرُ وَاسْتَذَفَّ إِذَا تَهَيَّأَ وَمِنْهُ يُقَالُ خَفِيفٌ ذَفِيفٌ وَقَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ إِنَّ الضَّحِيَّةَ نَسَخَتِ الْعَقِيقَةَ قَوْلٌ لَا دَلِيلَ مَعَهُ فِيهِ وَالَّذِي رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ نَسَخَتِ الضَّحِيَّةُ كُلَّ ذَبْحٍ مَعْنَاهُ كُلَّ ذَبْحٍ مَكْرُوهٍ.
فأما الْعَقِيقَةُ فَذَبْحٌ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ كَالضَّحِيَّةِ.
كَمَا قُرِئَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ حُرَيْثٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ وَهُوَ ابْنُ مُوسَى، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَّ عَنِ الْحَسَنِ، وَالْحُسَيْنِ» وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «بِكَبْشَيْنِ كَبْشَيْنِ».
وقُرِئَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ حَبِيبَةَ ابْنَةَ مَيْسَرَةَ، عَنْ أُمِّ كُرْزٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «عَنِ الْغُلَامِ، شَاتَانِ مُكَافِئتَانِ وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ».
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: فَهَذَا فِعْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلُهُ ثُمَّ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو وَسَمُرَةَ وَفَاطِمَةُ وَعَائِشَةُ وَمِنَ التَّابِعِينَ الْقَاسِمُ، وَعُرْوَةُ، وَيَحْيى الْأَنْصَارِيُّ، وَعَطَاءٌ وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ إِلَّا أَنَّ مَالِكًا يَقُولُ شَاةٌ عَنِ الْغُلَامِ وَشَاةٌ عَنِ الْجَارِيَةِ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ عَلَى حَدِيثِ أُمِّ كُرْزٍ وَالْحُجَّةُ لِمَالِكٍ الْحَدِيثُ: «أَنَّ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَقَّتْ عَنِ الْحَسَنِ، وَالْحُسَيْنِ بِكَبْشَيْنِ».
وَأَمَّا الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ الْعَقِيقَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الرَّجُلِ إِنْ لَمْ يُعَقَّ عَنْهُ عَقَّ عَنْ نَفْسِهِ. وَهِيَ عِنْدَ غَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ الضَّحِيَّةِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا إِلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ الضَّحِيَّةُ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مَنْ وَجَدَ إِلَيْهَا سَبِيلًا وَعَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْ وَلَدِهِ، وَخَالَفَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْهَا فِي كِتَابِهِ وَلَا أَوْجَبَهَا رَسُولُهُ صَلَّىَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ حَدِيثَ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ يُتَأَوَّلُ فِيهِ أَنَّهُ أَوْجَبَهَا عَلَى نَفْسِهِ وَقَدِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رَأَى هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ فَأَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ فَلَا يَحْلِقْ لَهُ شَعْرًا وَلَا يُقَلِّمْ لَهُ ظُفْرًا» فَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرَادَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُخَيَّرٌ إِنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمْ يَكُونَا يُضَحِّيَانِ مَخَافَةَ أَنْ يَتَوَهَّمَ النَّاسُ أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ وَكَذَا قَوْلُ أَبِي مَسْعُودٍ، وَبِلَالٍ، وَابْنِ عُمَرَ خَمْسَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ لَمْ يُوجِبُوا الضَّحِيَّة.
قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ مُتَكَافِئَتَانِ مُشْتَبِهَتَانِ تُذْبَحَانِ جَمِيعًا.
وَقَالَ أَحْمَدُ: مُكَافِئَتَانِ مُتَسَاوِيَتَانِ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: أَصْلُ الْعَقِيقَةِ الشَّعْرُ الَّذِي يُولَدُ الْمَوْلُودُ وَهُوَ عَلَى رَأْسِهِ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي الْبَهَائِمِ فَقِيلَ عَقِيقَةٌ لِأَنَّهَا إِذَا ذُبِحَتْ حُلِقَ ذَلِكَ الشَّعْرُ.
وَأَنْكَرَ أَحْمَدُ هَذَا الْقَوْلَ وَقَالَ: الذَّبِيحَةُ الْعَقِيقَةُ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَالَّذِي قَالَ أَحْمَدُ لَا يَمْتَنِعُ فِي اللُّغَةِ لِأَنَّهُ يُقَالُ عَقَّ إِذَا قَطَعَ وَمِنْهُ عَقَّ فُلَانٌ وَالِدَيْهِ.

.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ:

قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39].
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَرَأَ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39] قَالَ: وَهِيَ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: فَكَانَتْ هَذِهِ نَاسِخَةٍ لِلْمَنْعِ مِنَ الْقِتَالِ وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: نَسَخَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف: 180] الْأَمْرُ بِالْقِتَالِ.
وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ فَقَالَ: لَا مَعْنَى هَاهُنَا لِلنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف: 180] تَهْدِيدٌ لَهُمْ وَهَذَا لَا يُنْسَخُ.

.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ:

قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} [الحج: 52].
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} [الحج: 52] قَالَ: يُبْطِلُ مَا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ {ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} [الحج: 52].
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: هَذَا مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ إِذَا أَزَالَتْهُ وَرُوِيَ فِي هَذَا الَّذِيِ نَسَخَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِمَّا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ أَحَادِيثُ فَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَالنَّجْمِ} [النجم: 1] فَلَمَّا بَلَغَ {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم: 19] قَالَ: فَإِنَّ شَفَاعَتَهُمْ تُرْتَجَى فَسَهَا فَلَقِيَهُ الْمُشْرِكُونَ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ وَفَرِحُوا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52]، الْآيَةَ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا حَدِيثٌ مُنْقَطِعٌ وفيه هَذَا الْأَمْرُ الْعَظِيمُ وَكَذَا حَدِيثُ قَتَادَةَ وَزَادَ فِيهِ وَإِنَّهُنَّ لَهُنَّ الْغَرَانِيقُ الْعُلَا. وَلَوْ صَحَّ هَذَا لَكَانَ لَهُ تَأْوِيلٌ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي أَوَّلِ هَذَا الْكِتَابِ وَأَفْظَعُ مِنْ هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ عَنْ كَثِيرِ بْنِ زَيْدٍ عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: فَسَجَدَ الْمُشْرِكُونَ كُلُّهُمْ إِلَّا الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ فَإِنَّهُ أَخَذَ تُرَابًا مِنَ الْأَرْضِ فَرَفَعَهُ إِلَى وَجْهِهِ وَيُقَالُ إِنَّهُ أَبُو أُحَيْحَةَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ حَتَّى نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيهِ السَّلَامُ فَقَرَأَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا فَقَالَ مَا جِئْتُكَ بِهِ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء: 75].
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ مُنْقَطِعٌ وَلَا سِيَّمَا وَهُوَ مِنْ حَدِيثِ الْوَاقِدِيِّ وَالدِّينُ وَالْعَقْلُ يَمْنَعَانِ مِنْ هَذَا لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ قَالَ هَذَا مُتَعَمِّدًا وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِأَنَّ فِيهِ مُسَاعَدَةً لَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ لِأَنَّ هَذَا قَوْلُهُمْ، وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا فَكَيْفَ صَبَرَ وَلَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ حَتَّى أَتَاهُ الْوَحْيُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ رَجَعْنَا إِلَى الْآيَةِ فَوَجَدْنَا فِيهَا قَوْلَيْنِ لِمَنْ يُرْجَعُ إِلَى قَوْلِهِ وَعِلْمِهِ.
كَمَا حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلَكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] قَالَ: إِذَا حَدَّثَ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي حَدِيثِهِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: فَالتَّأْوِيلُ عَلَى: أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي سِرِّهِ وَخَاطِرِهِ مَا يُوهِمُهُ بِهِ أَنَّهُ الصَّوَابُ ثُمَّ يُنَبِّهُهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ عَلَيهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مَائِةَ مَرَّةً».
وَفِي السِّيَرِ أَنَّ كُبَرَاءَ قُرَيْشٍ جَاءُوهُ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ قَدِ اسْتَغْوَيْتَ ضُعَفَاءَنَا وَسُفَهَاءَنَا وَذَلِكَ حِينَ أَظْهَرَ دَعْوَتَهُ وَتَبَيَّنَتْ بَرَاهِينُهُ فَأَمْسِكْ عَنَّا حَتَّى نَنْظُرَ فِي أَمْرِكَ فَإِنْ تَبَيَّنَ لَنَا اتَّبَعْنَاكَ وَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَنَا كُنْتَ عَلَى أَمْرِكَ وَنَحْنُ عَلَى أَمْرِنَا فَوَقَعَ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ هَذَا إِنْصَافٌ ثُمَّ نَبَّهَهُ اللَّهُ بِالْخَاطِرِ وَالتَّذَكُّرِ لِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ إِظْهَارِ الدَّعْوَةِ وَأَنْ يَصْدَعَ بِمَا أُمِرَ بِهِ ثُمَّ نَزَلَ عَلَيْهِ الوَحْيُ {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء: 74] وَمَا بَعْدَهُ فَيَكُونُ عَلَى هَذَا {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} أَيْ فِي سِرِّهِ وَالْقَوْلُ الْآخَرُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ {فِي أُمْنِيَّتِهِ} فِي قِرَاءَتِهِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْأُمْنِيَّةُ التِّلَاوَةُ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ مِنْهُ {لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة: 78] فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ عَلَى هَذَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي تِلَاوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِمَّا شَيْطَانًا مِنَ الْإِنْسِ وَإِمَّا شَيْطَانًا مِنَ الْجِنِّ وَمُتَعَارَفٌ فِي الْآثَارِ أَنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ يَظْهَرُ كَثِيرًا فِي وَقْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَعَالَى {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 48] فَأَلْقَى الشَّيْطَانُ هَذَا فِي تِلَاوَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْطِقَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّ ظَاهَرَ الْقُرْآنِ كَذَا وَأَنَّ الثِّقَاتَ مِنْ أَصْحَابِ السِّيَرِ كَذَا يَرْوُونَ كَمَا رَوَى مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي تِلَاوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ شَفَاعَتَهُمْ تُرْتَجَى فَوَقَرَتْ فِي مَسَامِعِ الْمُشْرِكِينَ، فَاتَّبَعُوهُ جَمِيعًا وَسَجَدُوا وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ وَلَمْ يَسْمَعُوهُ وَاتَّصَلَ الْخَبَرُ بِالْمُهَاجِرِينَ فِي أَرْضِ الْحَبَشَةِ وَأَنَّ الْجَمَاعَةَ قَدْ تَبِعَتِ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَدِمُوا وَقَدْ نَسَخَ اللَّهُ مَا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ فَلَحِقَهُمُ الْأَذَى والْعَنَتُ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: فَقَدْ تَبَيَّنَ مَعْنَى الْآيَةِ بِهَذَا وَبِغَيْرِهِ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمُ} [الحج: 53] قَالَ الْقَاسِيَةُ قُلُوبُهُمُ الْمُشْرِكُونَ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا قَوْلٌ بَيِّنٌ لِأَنَّهُمْ لَمْ تَلِنْ قُلُوبُهُمْ لِاتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ الْمُنَافِقُونَ.

.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ الرَّابِعَةِ:

قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78].
مَنْ جَعَلَهَا مَنْسُوخَةً قَالَ: هِيَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] فَنَسَخَهَا عِنْدَهُ {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا لَا نَسْخَ فِيهِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ.